قضية الغموض في الشعر العربي المعاصر

د. سميحة كلفالي

قسم الآداب واللغة العربية، كلية الآداب واللغات، جامعة محمد خيضر – بسكرة، الجزائر

الملخص

عمل كثير من الشعراء العرب المعاصرين على تأسيس شعر جديد ، فانطلقوا من الثورة على مفاهيمه القديمة والانقلاب على الأساليب المتوارثة في نظمه متجاوزين منطق التقليد والاجترار وقيم الثبات والوضوح ، فلغة الشعر لا تعبر ولا تصرح ولا تصنف ولا تبوح وهذا هو مصدر غموضها. برز الغموض في الشعر العربي المعاصر مع ظهور قصيدة النثر ، حين رفض شعراء الحداثة الوزن مقياسا لتمييز الشعر عن النثر واعتبروا أن ما يميز بينهما هو طريقة استخدام اللغة ، فهي حين تحيد عن التعبير المباشر وتخرج عن المألوف فتكون لغة مجازية مكثفة بالإيحاءات ، وتؤسس لصور جديدة من خصائصها الدهشة والغرابة والغموض حينها يكون ما يُكتب شعرا. تفاوتت درجات الغموض في القصيدة الحداثية فنجده يشكل ملمحا فنيا جماليا فيها أحيانا ، ويصل حدّ الإبهام والتعقيد أحيانا أخرى لذلك تباينت مواقف النقاد والشعراء المعاصرين منه.

الكلمات المفتاحية: الغموض، الشعر، العربي، المعاصر، الحداثة.

(لتنزیل ملف كامل هذا البحث بصيغة بي دي اف، اضغط هنا)

مقدمة  :

يعد الغموض ظاهرة فنيّة ميزت الشعر بعد النصف الأول من القرن العشرين عندما بدأ التجديد ، فأصبح الشعر الجديد يمثل اتجاها جماليا يختلف عن اتجاه الشعر القديم ، بل ربما وقف منه موقف النقيض ، فكان الشاعــــــر القديــم ينطلق من معانٍ واضحة وأفكار جاهزة ويقوم بصياغتها ، أما الشاعر العربي المعاصر فيحاول أن يخلق معنى جديد لعالمه الجديد ، لذلك لم تعد قصيدته تقدم أفكارًا ومعانيَ شأن القصيدة القديمـــة ، وإنما أصبحت تقدم فضاءً من الأخيلة والصور ، ولم يعــــــد الشاعـــــــر ينطلــــق من موقف عقلي أو فكري واضـــح ، إنما أخذ ينطلق من مناخ انفعاليّ أو “رؤيا”.

فالعالم الجديد الذي يعيش فيه الشاعر اختلطت قيمه وتضاربت ، وأطل على الإنسانيّة شبح القلق وعدم الاستقرار ، لذلك لم يجد فيه قيما ثابتة يعتمد عليها ، فآثر الغموض ليعكس به انقلابا في التجربة الشعرية .

يرتبط الغموض في الشعر بالانتقال من طرق التعبير السائدة إلى طرق أخرى مغايرة ، وهذا الانتقال قد يحدث في أي عصر وفي أي أمة ، لذلك فالغموض ليس ظاهرة جديدة في الشعر العربي إنما نجده حتى في الشعر القديم ، فأبو تمام حين أحدث تجديدا في الشعر العربي في العصر العباسي عُدّ غامضا (أدونيس، زمن الشعر، 2005)، غير أن ذلك الغموض خاص بشعره وشعر قلة من معاصريه ، لذلك لا نعده قضية كما في الشعر المعاصر.

تباينت مواقف النقاد والشعراء المعاصرين من قضية الغموض ، بين من اعتبره سمة جمالية لا تتحقق شعرية النص دونها ومن رفض ذلك فهو عنده ليس معيارا للحكم على شعرية النص أو براعة الشاعر ، وقد برز خاصة عند شعراء الحداثة من خلال استعمالهم المغاير للغة الشعرية وتشكيلهم الجديد للصورة الشعرية .

فما هي خصائص كل من اللغة الشعرية والصورة الشعرية في الشعر العربي الحداثي ؟ وكيف تجسد الغموض من خلالهما ؟ ولمَ تباينت مواقف النقاد والشعراء المعاصرين من قضية الغموض ؟

يهدف هذه البحث لدراسة قضية الغموض في الشعر العربي المعاصر من خلال ثلاثة محاور كالآتي :

– الغموض على مستوى اللغة الشعرية

– الغموض على مستوى الصورة الشعرية

– موقف النقاد والشعراء المعاصرين من قضية الغموض

1- الغموض على مستوى اللغة الشعرية :

إن التشكيل اللغوي المتميز عند كثير من الشعراء المعاصرين القائم على التجاوز بخرق قواعد اللغة وتحرير الكلمات لتقيم علاقات جديدة من جهة وتجاوز القوانين والنظم المختلفة من جهة ثانية ، جعله مكثفا بالغموض نتيجة الهروب إلى اللاّوعي والحلم والإغراق في الفلسفة ، وهو ما يقره يوسف الخال ، يقــول : ” أسهمت إلى حد كبير في تحريـــــــر الشعـــــــر من أسر التاريخ وقانون الجماعة ، ومن نمطيــــــــــة النظرة الدينيـــــة الفقهيــــــة ، أي من سلطة المعجم والماضي مقدسا كان أو تاريخيا ، كما أسهمت إسهاما واضحا في دفعه إلى اتجاه التفكيـــر الفلسفي والحدس وتحريض اللاوعي وتراسل الملكات ” (سعيد، 2012) ، لذلك فهو يدعو الشعـــــــــراء إلى رفض الخضــــــــوع إلى الماضي وتقاليده ، والتحرر من كـــل سلطة موروثة أو شكل مسبق (سعيد، 2012)، ويقطع على نفسه وعدا بالخلق الشعري  ، يقول في قصيدته إلى عزرا باوند :

لَكَ الوَعْدُ : إنَّا

سَنَبْنِي بِدَمْعِ الجَبِين

عَوالِمَ للشِّعْرِ من عَبْقَر

مَفَاتِيحُهُنّ (الخال، 1979)

فالسبيل إلى التحرر يكون بتجاوز القواعــــد والنظـــم الدينيــــة والتاريخية من جهة وتجاوز أسس الكتابة الشعرية من جهة أخرى حسب رأيه .

تقوم اللغة الشعرية الحداثية على التجديد والثورة على النمطية والتقليد ، وخلق اللغة الشعرية يكون بخلق علاقات جديدة يقيمها الشاعر بين الدال والمدلول ” فلا يتحقق الشعر إلا بقدر تأمل اللغة وإعادة خلقها مع كل خطوة وهذا يفترض تكسير الهياكل الثابتة ” (كوهن، 1986) . وهو ما ذهب إليه يوسف الخال ، ويستعمل مصطلحي التكثيف والإيحاء لوصف الكلمة في الشعر ، فهي مكثفة نتيجة علاقاتها بغيرها ، موحية نتيجة هذا التعدد العلائقي ما يجعلها توحي بمدلولات عديدة (علاق، 2005) ، وهو ما اتسم به شعره إذ يجمع بين الكلمات في علاقات غير منطقية ليجعل ذلك سبيلا لانفتاح المعنى وتعدد الدلالة ، من ذلك قوله :

لا أَرَى سيِّدًا في الجَمْع . البَجَعُ يَتَمَطَّى في البُحيْرَة ولا نِسْرُ في الأُفُق

المِياهُ راَكِدَة والضِّفافُ أقرَبُ من الأنْف . الهواءُ ثَقِيل . النُّورُ ثقيل .الحِمارُ

يَنطقُ ، لا بأُعْجوبةٍ ، الأَعْمى يُبْصِرُ . لا بأعجوبة .

الميِّتُ يقوم ، لا بأُعْجُوبةٍ . الأعجوبةُ رقمٌ في آلَة ،

والسَّماءُ بَقِيَتْ في المَجَاهِل (الخال، 1979) .

يجمع يوسف الخال بين الكلمات بطريقة غريبة ، وهو مظهر من مظاهر الثورة على التقاليد والحرية التي يمنحها الشاعر لنفسه في ظل الحداثة الشعرية ، يقول :

 أيْنَ عهدٌ غُيِّبَتْ حُرِّيتي فِيه

بسِجْنٍ من التَّقاليدِ قاسِي

أخنُقُ الفِكرَ إن تعدَّى حدُودًا

رَسَمَتْها مِنْ قَبْلُ ، أَيْدِي الأَنَاسِي

فالضَّحايا باِسْمِ الكَنيسةِ والدِّين .

تَرَامَتْ مخنوقَةَ الأنْفَاسِ ،

… ذاكَ عهْدٌ تصارعَ الفِكرُ فِيهِ

معَ سجَّانه ، فنالَ انْتِصَارَا .

فأطَلَّتْ حُريَّتي تَنْسجُ الفجرَ

رداءً ، على الوَرَى وإزَارَا ،

وعليها من الجلالَةُ إكْليل

تسامى ، فزيَّنَ الأحْرارَا (الخال، 1979)

ويركد أدونيس ما ذهب إليه الخال فقد دعا أيضا إلى الخلق الشعري الذي يكون بتجاوز التقاليـــد والمعايير المتوارثة ، يقول:

كَم قُلتُ جِئْتُ بلا طُقُوسٍ

ووَهبتُ نفسي للجُمُوح، لِكُلّ رَفْضٍ

كم قلتُ: أخرقُ هذه اللغَةَ الأمِينَةَ للأُصولْ

أَرُجُّ قاعدةَ الأصولْ (أدونيس، الكتاب أمس المكان الآن )

فأدونيس يعلن مشروعه القائم على خرق اللغة وقوالب الشعر ونظامه ، يقول:

بَابِلُ جِئْنَا

نَبْنِي مُلْكًا آخرَ، جِئنا

نُعْلِنُ أنَّ الشِّعْرَ يقينْ

والخَرْقَ نِظَامْ (أدونيس، المطابقات والأوائل – صياغة نهائية- ، 1988).

فلا نظام في الشعر إنما أصبح الخرق نظاما عنده .

إن التشكيل اللغوي المتميز في شعر العربي الحداثي القائم على التجاوز بخرق قواعد اللغة وتحرير الكلمات لتقيم علاقات جديدة ، جعله غامضا ومكثفا بالصور الشعرية المتنوعة ، التي تمثل عنصرا مهما تقوم عليه شعرية القصيدة العربية الحداثية  .

(لتنزیل ملف كامل هذا البحث بصيغة بي دي اف، اضغط هنا)

2- الغموض على مستوى الصورة الشعرية :

تعد الصورة الشعرية عنصرا مهما في بناء القصيدة عامة ، والقصيدة المعاصرة بشكل خاص ، إذ أدرك الشاعر العربي المعاصر أبعادها النفسيــّـــة والفكريـــّـــة ، وعلاقتها الوطيدة بالتجربـــــــة الشعريـــــة ، فلم تعد مجرّد تسجيــــل للأشياء كما في الشعــــــــر القديم إنما أصبحت انفعالا بها (الفتاح، 2006) ، ولم يعــــــد القصــــــد منها إيضـــــــاح المعنى وتأكيـــده في الذهن ، بل أصبحت هي نفسها حالة شعرية تنبع من أعماقها المعاني الموحاة من الشاعر والمتخيلة من القارئ لما فيها من دفق شعوري فياض (الغدامي، 1984).

تقوم الصورة الشعرية على الانزياح ، إذ يوفر لها قدرة على تكوين علاقات وتوليد دلالات مكثفة ويضع المعنى موضع الاحتمال ، لذلك فهي ضد ثبات المعنى ، وهو ما يجعل العالم الشعري في القصيدة المعاصرة عالما متخيلا، مفارقا لمرجعياته ، ليرتفع مستوى الغموض والدهشة والغرابة وتعدد الاحتمالات وتنوع الدلالات فيها .

ويلعب الخيال دورا مهما في تشكيل الصورة الشعرية المعاصرة لأنها تؤسس لعلاقات بين عناصـــر وأشياء قد لا توجـــد بينها علاقـــــــة إلا في خيــــــال الشاعر (الفتاح، 2006) ، لذلك تتجاوز حدود الصورة القديمة القائمة على التشبيه والاستعارة والكناية – دون أن تغفلها- ، وتؤسس لأشكال وعناصر جديدة تختلف باختلاف تجربة الشاعر وروافده ، فلا توجد صورة واحدة بل صور متعددة .

لقد قدم شعراء الحداثة العرب أشكالا جديدة وصورا شعرية مبتكرة من أجل تجسيد رؤاهم الخاصة فخرقوا كل ما هو مألوف ، فعبد الوهاب البياتي يؤكد على أهمية الإيحاء والرمز في إبداع الصور من خلال القفـــز بعيدا عن موروث اللغة والصور ، مستحدثا بذلك صورا تقوم على دلالات جديدة ، ومتجاوزا الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية ، ذاهبا إلى صور تقوم على توسيع مدلول الكلمات من خلال تحريك الخيال واعتماد الرمز والانزياح للتعبير عن تجاربه الجديدة  .

لقد بلغ اهتمام البياتي بالصورة الشعرية أن ابتدع أسلوبا جديدا في الشعر وهو التعبير بالصور الشعرية ، ليبتعد بأسلوب القصيدة عن اللغة التقريرية الجافة ، وتعد قصيدة المغني والقمر من أكثر القصائد التي عبر من خلالها عن هذا الأسلوب الجديد ، يقول :

رأَيْتهُ يلعبُ بالقلوبِ واليَاقُوت

رأيْتهُ يموت

قميصُهُ ملطَّخٌ بالتُّوت

وخِنجرُ في قلبِهِ

وخيطُ عنْكبوت

يلتفُّ حول نايِه المُحطَّمِ الصَّموت

وقمرٌ أخضرُ في عيونِهِ

يغيبُ عبر شرفاتِ اللَّيلِ والبيوت

وهو على قارعةِ الطَّريقِ في سكينةٍ يموت (البياتي، 1969)

فهذه القصيدة تجمع بين عدة صور بداية من صورة المغني الذي يلعب بالقلوب والياقوت ثم صورته وهو يموت ومايتصل بهذه الصورة من صور أخرى ( صورة القميص ، الخنجر ، الخيط ، الناي ، القمر … ) .

عمد شعراء الحداثة إلى شحن الصورة الشعرية بالرموز ليتسع أفق الدلالة في النص الشعري ، إذ يضفي الإيحاء الرمزي دلالته الخاصة على السياق الذي ترد فيه الصورة الرمزية ، وقد يتخذها الشاعر قناعا للتعبير عن أفكاره ومعتقداته ، يقول عبد الوهاب البياتي في قصيدة أبي زيد السّروجي :

كان يغنِّي

عندما أغار هُولاكُو على بغداد

وغُلِّقت في قلبِ مدريد وفي أبْوابها الأعْواد (البياتي، 1969)

فالبياتي يشير إلى واقعتين تاريخيتين وهما سقوط بغداد على أيدي المغول ، وسقوط مدريد على أيدي العسكريين من أنصار فرانكوا ، أي سقوط قلعتين من قلاع الحضارة الإسلامية ، ليرمز إلى انحطاط النفس الإنسانية من خلال رمز أبي زيد السروجي ( بطل مقامات الحريري ، يتصف بحلاوة اللسان وبلاغة الكلام ليحتال على الناس في جمع المال ) الذي استمر في الغناء رغم هول الحادثتين .

إن حضور الصورة الشعرية المتميز في الشعر العربي الحداثي يؤكد على أهميتها في بنائه ، فقد أجمع شعراء الحداثة على كونها من المظاهر المهمة الدالة على انفتاح النص الشعري ومفتاحا من مفاتيح قراءته . وتتميز هذه الصور بالدهشة والغرابة وابتعادها عن الواقع بدخولها عوالم الحلم واللاوعي والمجهول ، وقيامها على الرمز .. لذلك فهي صور غامضة . كما أن الغموض فيها يعود إلى غموض اللغة الشعرية التي شكلتها فحتما ستحمل خصائصها .

3- موقف النقاد والشعراء المعاصرين من قضية الغموض :

يرى عز الدين اسماعيل أن الغموض أساسي في لغة الشعـــــر لأنه يرتبط بالإيحاء ، ويتحقق فيها عن طريق المجاز، يقول: ” كثرة التفصيلات ، لا تترك عملا للإيحاء الذي تتمتع به لغة الشعر والذي يعتمد على الصور الفنية كالاستعارة وغيرها، ولذا فإن التعبير المباشر ليس تعبيرا شعريا ” (إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي، 1986)  ، وهو يعده سمة جمالية في الشعر الجديد يقول: ” إن الشعر الجديــــــد يتسم في معظمه بخاصة في أروع نماذجـه بالغموض ” (إسماعيل، الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، 1967).

ويبين أدونيس موقفه من ظاهرة الغموض في الشعر مشيرا إلى طائفة من الشعراء اتخذته سبيلا لإخفاء عجزها عن الإبداع شأنها شأن طائفة أخرى اتخذت الوضوح سبيلا لإخفاء عجزها هي الأخرى ، فالذي يعنيه هو الإبداع بحد ذاته ، الذي يكون فيه الغموض فنيا يصل الشاعر به إلى الأعماق ومن يحارب هذا الغموض في الشعر فهو يحارب ” الأعماق من أجل أن يبقى على السطح ، ويحارب البحر من أجل أن يبقى على الساقية ، ويحارب الغابة والرّعد والمطر من أجل أن يبقى في الصحراء ” (أدونيس، زمن الشعر، 2005).

 وهو الغموض الذي ميز تجربة أدونيس الشعرية ، فهو يقر بذلك يقول : ” ولئن كان الوضوح طبيعيا في الشعر الوصفي أو القصصي أو العاطفي الخالص لأنه يهدف إلى التعبير عن فكرة محددة أو وضع محدد ، فإن هذا الهدف لا مكان له في تجربتي، فأنا لا أنطلق من فكرة واضحة محددة ، بل من حالة لا أعرفها أنا نفسي معرفة دقيقة، ذلك أنني لا أخضع في تجربتي للموضوع أو الفكرة أو الأيديولوجيا أو العقل أو المنطق ، إن حدسي كرؤيا وفعالية وحركة هو الذي يوجهني ويأخذ بيدي ” (أدونيس، خواطر حول تجربتي الشعرية، 1966) ، فانطلاقه من معطيات غير ثابتة هو ما جعل شعره يبتعد عن الوضوح ، ويظهر هذا من خلال اختياره لعناوين الكثير من قصائده : الحلم- أبعاد غامضة- أسرار- رؤيا- غابة السحر- نبوءة … إلخ، ويتعدى الغموض عناوين هذه القصائد وغيرها إلى المتن، إلى درجة كبيرة يصعب معها حتى تأويلها ، يقول في قصيدة البرق :

أَوْمَأَ لِي بَرْقٌ بَكَى و نامْ

في غابةِ الظُّنُونْ

يَجهلُ أنِّي سَيِّدُ الظلامْ ؛

أومَأَ لي بَرْقٌ بكى ونامْ

نَامَ على يديْ

مُنْذُ رأى عَينيْ (أدونيس، الأعمال الشعرية الكاملة ج1) .

فأدونيس حتما يريد بالبرق مدلولا غير مدلوله ، لكنه غامض لأنه لم يترك ما يدل عليه كغيره من الدوال الأخرى : غابة الظنون ، سيد الظلام …

أراد أدونيس لشعره أن يكون غامضا عصيا على الفهم ، وهو يتفق مع محمد بنيس الذي حدَّد وظيفة اللغة الشعرية في السحر والإشارة فهي لاتُعبِّر ولا تُصنِّف ولا تَبوح ولا تُصرِّح وهذا هو مصدر غموضها (بنيس، 2001، صفحة 97) .

 يعلق إبراهيم السامرائي على الغموض في قصيدة زهرة الكيمياء التي يقول فيها أدونيس:

يَنْبغِي أن أُسَافرَ في جنةِ الرَّماد

بَيْنَ أشْجَارِها الخفيَّهْ

في الرَّمَادِ الخَواتِيمُ والمَاسُ والجزّةُ الذهبيَهْ .

 يَنْبغي أن أُسافرَ في الجوعِ ، في الوَرْدِ ، نحوَ الحصادْ

يَنْبغي أن أسافرَ، أن أَستريحْ

تَحْتَ قوسِ الشِّفاهِ اليتيمهْ ،

في الشِّفَاهِ اليتيمة في ظِلِّها الجَرِيحْ

زهرة الكيمياء القديمهْ (أدونيس، الأعمال الشعرية الكاملة ج 2).

بقوله : ” هل من يدلني على طريق أصل فيه إلى إدراك هذه الكلمات التي بدت لي كأنها ضلت الطريق إلى حقائقها ؟ ، فما المراد من ( هذه الزهرة الكيمياوية) ؟ ، وأين تكون في سفر المؤلف في ( العدم) أي ( جنة الرماد) ؟ ، وكأن الرّماد ليس العـــدم ، بل هو الخواتيم والماس والجزة الذهبية ، كيف تكون هذه الأجزاء التي يأبى أحدها الآخر مجموعة في الرماد ؟ ، وكان على المؤلف أن يدل على الجزة التي لا يعرفها جمهرة قرائـــــــــه ” (السامرائي، 2002).

ويذهب عبد الوهاب البياتي إلى أن شعر أدونيس غير مقبول لدى القارئ العربي لأنه عصي على الفهم ، هذا إن لم يكن ثرثرة لغوية منظومة (فاضل) ، رغم أنه ( البياتي) لم يكن ضد الغموض في الشعر بل اعتبره من جمالياته وقصد إليه في شعره خاصة على مستوى الصورة الشعرية .

أما نزار قباني فرفض الغموض في الشعر ، وتساءل : ” هل التعتيم هو الشرط الأساسي لتأكيد ثقافة الشاعر وغنى عوالمه الجوانية ؟ ، وبكلمة أخرى هل غموض الرؤية وغموض الوسيلة وغموض طريقة العرض هي معيار أهمية الشعر وأهمية الشاعر ؟ ” (قباني) ، فقيمة الشعر وغنى عوالمه الداخلية وبراعة الشاعر أمور لا يثبتها الغموض – حسب نزار قباني – .

إن التشكيل الفني الجديد في الشعر العربي المعاصر خاصة على مستوى اللغة والصورة الشعريتان هو الذي جعل الغموض سمة فنية جمالية فيه ، ولكن قد يصل الغموض في القصيدة إلى درجة مبالغ فيها فتصبح عصية مبهمة ما يؤدي إلى عدم مقروئيتها .

الخاتمة :

تخلص الدراسة في نهايتها إلى جملة من النتائج ، كالآتي :

  • يعد الغموض من أبرز قضايا النص الشعري العربي المعاصر ، فرغم وجوده في الشعر القديم إلا أنّنا لا نكاد نعثر عليه إلاّ في شعر قلة من الشعراء .
  • يرتبط الغموض بشعر الحداثة الذي أعلن ثورته على المفاهيم القديمة وانقلابه على الأساليب المتوارثة في النظم متجاوزا منطق التقليد والاجترار وقيم الثبات والوضوح .
  • يبرز الغموض في القصيدة الحداثية على مستوى كل من اللغة الشعرية والصورة الشعرية .
  • لغة القصيدة الشعريّة الحداثية لغة مجازية لا تُعبِّر ولا تُصرِّح ولا تُصنِّف ولا تَبوح وهذا هو مصدر غموضها .
  • إن التشكيل اللغوي المتميز في شعر العربي الحداثي القائم على التجاوز بخرق قواعد اللغة وتحرير الكلمات لتقيم علاقات جديدة ، جعله غامضا ومكثفا بالصور الشعرية .
  • تتميز الصورة الشعرية الحداثية بالدهشة والغرابة والتكثيف ، وإغراقها في اللاوعي والحلم والمجهول ، ما يجعلها غامضة .
  • رغم بروز الغموض في الشعر العربي المعاصر ، إلا أن مواقف الشعراء والنقاد قد تباينت بشأنه فمنهم من اعتبره سمة فنية في القصيدة ومنهم من رفض اعتباره كذلك .

قائمة المصادر والمراجع :

أدونيس. الكتاب أمس المكان الآن .  بيروت: دار الساقي.

أدونيس. الأعمال الشعرية الكاملة ج.1 (ط4) بيروت: دار العودة.

أدونيس. الأعمال الشعرية الكاملة ج2  . (ط4)بيروت: دار العودة.

أدونيس. (1988). المطابقات والأوائل – صياغة نهائية- . بيروت: دار الآداب.

أدونيس. (1966).  مج 14 ع 03 .خواطر حول تجربتي الشعرية. مجلة الآداب.

أدونيس. (2005). زمن الشعر (ط6). بيروت: دار الساقي.

إسماعيل, عز. الدين. (1986). الأسس الجمالية في النقد العربي. بغداد: دار الشؤون الثقافية.

إسماعيل, عز. الدين. (1967).الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. القاهرة: دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.

البياتي, عبد الوهاب. (1969). الديوان. بيروت: دار الآداب.

الخال, يوسف. (1979). الأعمال الشعرية الكاملة (ط2). بيروت: دار العودة.

السامرائي, إبراهيم. (2002). البنية اللغوية في الشعر العربي المعاصر. عمان: دار الشروق .

الغدامي, عبد. الله. (1984, مج 4 ع4 . كيف تتذوق قصيدة حديثة. مجلة فصول.

عبد الفتاح, كميليا. (2006). القصيدة العربية المعاصرة – دراسة تحليلية في البنية الفكرية والفنية – . الإسكندرية: دار المطبوعلت الجامعية.

بنيس, محمد. (2001). الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاته. (ط3) المغرب: دار توبقال للنشر.

جان كوهن. (1986). بنية اللغة الشعرية. تر : محمد الولي ومحمد العمري الدار البيضاء ، المغرب: دار توبقال للنشر.

سعيد, خالدة. (2012). يوتوبيا المدينة المثقفة (ط3). بيروت: دار الساقي.

علاق, فاتح. (2005). مفهوم الشعر عند رواد الشعر العربي الحر . دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب.

فاضل, جهاد. أسئلة الشعر ، حوار مع عبد الوهاب البياتي . القاهرة: الدار العربية للكتاب.

قباني, نزار. قصتي مع الشعر. بيروت: منشورات نزار قباني .

 

(لتنزیل ملف كامل هذا البحث بصيغة بي دي اف، اضغط هنا)